سورة الكهف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


قلت: {ولا تعد}: نهي مجزوم بحذف الواو، و{عيناك}: فاعل، و{تريد}: حال من الكاف، أو من فاعل {تَعْدُ}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واصبرْ نفسك} أي: احبسها {مع الذين يدعون ربهم} أي: يعبدونه {بالغداةِ والعَشِيِّ}، قيل: الصلوات الخمس، فالغداة: الصبح، والعَشِيِّ: الظهر وما بعده، وقيل: الصبح والعصر، قلت: والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يُصلونها قبل فرض الصلاة، وهي ركعتان بالغداة والعشي. قال ابن عطية: ويدخل في الآية مَنْ يدعو في غير صلاة، ومن يجمع لمذاكرة علم، وقد رَوى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَذِكْرُ اللهِ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوف فِي سَبيل اللهِ، ومِنْ إعْطَاءِ المَال سحا»
وقيل: {يدعون ربهم} في جميع الأوقات، وفي طرفَيْ النهار، والمراد بهم فقراء المؤمنين؛ كعمار وصهيب وخباب وبلال، رُوي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، وقالوا: إن ريح جِبَابِهم تؤذينا، فنزلت الآية. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم، وقال: «الحمدُ لله الذي جَعَلَ في أمتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبرْ نَفْسِي معه» وقيل: نزلت في بيان أهل الصُّفَّة، وكانوا نحو سبعمائة، فتكون الآية مدنية.
ثم وصفهم بالإخلاص، فقال: {يُريدون وجهه} أي: معرفة ذاته، لا جنة ولا نجاة من نار، {ولا تَعْدُ عيناك عنهم} أي: لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم، من عداه: إذا جاوزه، وفي الوجيز: ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، {تُريد زينةَ الحياةِ الدنيا} أي: تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا.
{ولا تُطِعْ} في تنحية الفقراء عن مجلسك {مَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرِنا} أي: جعلناه غافلاً عن الذكر وعن الاستعداد له، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك، فإنهم غافلون عن ذكرنا، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله- سبحانه- حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل. {واتَّبَعَ هواه}: ما تهواه نفسه، {وكان أمره فُُرطًا}: ضياعًا وهلاكًا، وهو من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف، فإن الغفلة عن ذكر الله- تعالى- تُؤدي إلى اتباع الهوى المؤدي إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية حثٌّ على صحبة الفقراء والمُكْث معهم، وفي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة، إذ بصحبتهم يَكتسبُ الفقير آداب الطريق، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب، حتى يتأهل لحضرة التقريب، وبصحبتهم تدوم حياة الطريق، ويصل العبد إلى معالم التحقيق، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه:
مَا لَذّةُ العَيْشِ إلا صُحبة الفُقرا *** هُمُ السَّلاَطِينُ والسَّادَاتُ والأُمَرَا
فاصْحَبْهُمُ وتَأَدَّبْ فِي مَجَالِسِهِم *** وَخَلِّ حظَّكَ مَهْمَا خَلَّفُوكَ وَرَا
إلى آخر كلامه.
وقوله تعالى: {واصبر نفسك} قال القشيري: لم يقل: واصبر قلبك؛ لأن قلبه كان مع الحق تعالى، فأمره بصحبة الفقراء جَهْرًا بجهر، واستخلص قلبه لنفسه سِرًا بِسرٍّ. اهـ. قال الورتجبي: اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء، العاشقين لجمالي، المشتاقين إلى جلالي، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وَصْلي، حتى يكونوا مُتسلين بصحبتك عن مقام الوصال، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال. اهـ.
وقوله تعالى: {يريدون وجهه}، بيَّن أن دعاءهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه، شوقًا إليه ومحبة فيه، من غير تعلق بغيره، أو شُغل بسواه، بل همتهم الله لا غيره، وإِلاَّ لَمَا صدق قصر إرادتم عليه. قال في الإحياء: من يعمل اتقاء من النار خوفًا، أو رغبة في الجنة رجاء، فهو من جملة النيات الصحيحة؛ لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة، وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله، لا لأمرٍ سواه. ثم قال: وقول رويم: الإخلاص: ألا يريد صاحبه عليه عوضًا في الدارين، هو إشارة لإخلاص الصدِّيقين، وهو الإخلاص المطلق، وغيره إخلاص بالإضافة إلى حظوظ العاجلة. اهـ. من الحاشية.


قلت: {الحق}: خبر، أي: هذا الذي أُوحي إليَّ الحقُّ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقل}: يا محمد لأولئك الغافلين المتبعين أهواءهم، أو: لمن جاءك من الناس: هذا الذي جئتكم به من عند ربي هو {الحقُّ من ربكم} أي: من جهة ربكم، لا من جهتي، حتى يتصور فيه التبديل، أو يمكن التردد في اتباعه. {فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفرْ}، وهو تهديد، أي: فمن شاء أن يؤمن فليؤمن كسائر المؤمنين، ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل، ومن شاء أن يكفر فليفعل، وفيه مع التهديد الاستغناء عن متابعتهم، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم.
ثم أوعدهم على الكفر، فقال: {إِنا أعْتَدْنا للظالمين} أي: هيأنا للكافرين بالحق، بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين؛ للتنبيه على أن اختيارهم الكفر ظلمٌ وتجاوزٌ عن الحد، ووضعٌ للشيء في غير محله، أي: هيأنا لهم {نارًا} عظيمة {أحاط بهم} أي: محيطُ بهم {سُرادِقُها} أي: سورها المحيط بها، والتعبير بالماضي؛ لتحقق وقوعه، والسرادق: ما يحيط بالشيء، كالجدار ونحوه. قيل: هو حائط من نار، وقيل: دخانها. {وإِن يستغيثوا}؛ من العطش {يُغَاثوا بماء كالمهل}: كَمُذَاب الحديد والرصاص في الحرارة. وقيل: كرديء الزيت في اللون، {يشوي الوجوه} إذا قُدم ليشرب؛ بحرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هو كَعَكِرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرّبَ مِن الكافر سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، فإذَا شَرِبَهُ تقَطَّعَت أَمْعَاؤُه»
{بئسَ الشرابُ} ذلك، {وساءت}؛ النار {مُرتفقًا}: مُتَّكًا، وأصل الارتفاق: نصب المِرفق تحت الخد ليتكئ عليه، وأنى ذلك في النار، وإنما هو بمقابلة قوله في المؤمنين: {وحسنت مرتفقًا}.
الإشارة: ينبغي للواعظ، أو المُذكر، أو العالم، ألا يحرص على الناس، بل يستغني بالله في أموره كلها، وإنما يُبين الحق من الباطل، ويقول: هذا الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر. هذا إذا كان لعامة الناس، وأما إن كان لخاصتهم؛ كأهل الرئاسة والجاه، فاختلف فيه؛ فقال بعضهم: يسلك هذا المنهاج يُبين الحق ولا يبالي، محتجًا بالآية، قال: نحن أمة محمدية، قال تعالى له: {وقل الحق من ربكم...} الآية، وقال بعضهم: ينبغي أن يلين لهم القول؛ لقوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44]، وهو الأليق بطريق السياسة، فمن أعرض عن الوعظ، وبقي على ظلمه، فالآية تجر ذيلها عليه. والله تعالى أعلم.


قلت: جملة: {إنّا لا نضيع}: خبر إن، والعائد محذوف، أي: أحسن عملاً، أو: وقع الظاهر موقعه؛ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمل صالحًا. و{أولئك}: استئناف؛ لبيان الأجر، أو: خبر إن، وما بينهما اعتراض، أو خبر بعد خبر. و{من أساور}: ابتدائية، و{من ذهب}: بيانية، و{أساور}: جمع أسورة، أو أسوار جمع سوار، فهو جمع الجمع.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الذين آمنوا} أي: اختاروا الإيمان، من قوله: {فمن شاء فليؤمن}، وكأنه في المعنى عطف على قوله: {أعتدنا للظالمين}، أي: والذين آمنوا هيأنا لهم كذا وكذا، ولعل تغيير سبكه: للإيذان بكمال تنافي مآلَيْ الفريقين، أي: إن الذين آمنوا بالحق الذي أُوحي إليك {وعَمِلُوا} الأعمال {الصالحات}، حسبما بيَّن فيما أوحي إليك، {إِنا لا نُضِيعُ أجرَ من أحسن عملاً}، وأتقنه على ما تقتضيه الشريعة.
{أولئك}؛ المنعوتون بهذه النعوت الجليلة {لهم جناتُ عدن تجري} من تحت قصورهم {الأنهار}؛ من ماء ولبن وخمر وعسل، {يُحلَّون فيها من أساورَ من ذهب}
أي: كل واحد يُحلَّى بسوارين من ذهب. وكانت الأساور عند العرب من زينة الملوك، {ويَلْبَسُون ثيابًا خُضْرًا}، وخصت الخضرة بثيابهم؛ لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة. وتلك الثياب {من سُنْدُسٍ وإِستبرقٍ}، السندس: ما رقَّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، جمع النوعين؛ للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، {متكئين فيها على الأرائك} جمع أريكة، وهو السرير في الحجَال، أي: متكئين على الأسرة المُزينة بالستور الرفيعة، كحال العرائس المتنعمين. {نِعْمَ الثوابُ} ذلك، {وحَسُنَتْ مُرتفقًا}: متَّكأ. والآية عامة وإن نزلت في خصوص الصحابة رضي الله عنهم، وأماتنا على منهاجهم. آمين.
الإشارة: إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس؛ وهي تحملُ ما يثقل على النفوس، أولئك لهم جنات المعارف، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب، يُحلَّون فيها بمقامات اليقين، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين، متكئين على سرر الهنا والسرور، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور، جعلنا الله فيهم بمنّه وكرمه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8